خمس كلمات ثم جاءت الحياة للمؤلف الدكتور/ درويش بن سيف بن سعيد المحاربي
تمهيد تتحدث ارواحنا من انفاس خواطرنا المنتظرة امام ابواب السنتنا المشغولة بهيامها الابدي. تتحدث من فوق سحاب المعلوم والمكتوم والمبتهج والمكلوم. نحيل بضع تمتمات تجيد استغوائنا الى أصوات كبرت معنا منذ انسنتنا الأولى، مغرمة بتناغمها، في هيئة حروف وكلمات، نرّكبها ونرتبّها في قوالب من افكار تعيشنا بعد ان نعيش بين ثنايا دهاليز اسطرها. نشّكل مفردات هذه اللغة كيفما استسهل امرها واستعّذب مغزاها، نحاول ان نملك زمام موردها إن استعصت علينا فنوردها رويدا رويدا، نأخذ بيدها ان رضت، نستقّوي عليها بها! يلجمنا الاستعصاء المختبئ وراء ظله، ويطلق العنان لمساحة فكر نهضت قبل أكثر من مليون سنة من إغماءه لا تتذكر سببها ولم تزل في افاقتها المجهدة، هائمة هي في فضاء بعيد سحيق مجهول، تسأل عن بشرا تحول الى اول انسان، الذي كان في يوم ما في سعادة أزلية لم تلبث ان انسّلت من بين يديه. فعصى وغوى ثم اجتباه الله فغاب في سبات أبدى، نطفة فمضغة فعلقة، ميت يحيا ثم يموت ثم يحيا.
في حياتنا القصيرة جدا تحاصرنا خيول المعرفة الجامحة، السارحة في انطلاقتها، الساحرة في اطلالتها، والمسحورة بصهيلها المدوي. نلّملم فتات قدرات عقولنا لتخوض بنا هذه الساكنة فينا، المضطجعة فوق سكون التأمل والتدّبر. نشد ونرخي لجامها المنسوج في زوايا اضلعنا، نسافر من خلالها الى فضاءات الدهشة من هذا الكون العجيب الغريب على امل ان ننّدهش من دهشتنا ان استطعنا لأن الدهشة هي السبيل الاقدر لتمكيننا من الغوص في اعماق الاستطلاع، هذا المستعصي الاخر المنتظر فوق اشرعة هربت من ثناياها الاتجاهات. يغوص بنا "السؤال الأول" في خلجات انبهارنا المصدوم بنا، ليأخذ بأيدينا الى حيث تنبت المعرفة، الى تلك التي تهاجر ضجرة من نومها الضجِر. نقترب من أنفسنا أكثر، نحاول فهم ذواتنا ان سارت الريح معنا، نعيد الكرة المرة بعد المرة، نتعرف علينا بنا، تقفعّل الحياة حولنا ثم ترمّعل منهزمة تبيع في ازقة الغيب اخر ما تبقى فيها من رمق. المعرفة، العلم بالشيء وفهمه وتطويعه، هذا الغرس الطيب الذي نزرعه في تربة العقول العطشى المنتظرة على حدود الخصب الفكري، تلك التواقة للارتواء، المختزلة لملايين الاسئلة عن الواقع الملموس وقرينه اللامحسوس، وما حولهما من كواكب ونجوم، وصفاء وغيوم. نيّمم صوب طرقات استهواءها والاحساس بها.
المعرفة، هذا القدر الذي احاط بنا منذ ان قال الله عز وجل للملائكة "إني جاعل في الارض خليفة". هذه السحابة التي نمطرها رعدا وبرقا ليل نهار، نسّيل اوديتها املا وطمعا، تأتينا تحمل بين طياتها ثروة انسانيتنا، يتوارثها الناس جيل بعد جيل، تذّكرنا بنا، بكينونتنا، بإنسانيتنا. معجونة هي في طيننا وروحنا، ترتحل بيننا وتقيم فينا دون الحاجة الى إجراءات لدخولها سوى تأشيرة الرغبة في معرفتها عن قرب والانصات لها، لتوّسع مداركنا وتلهب حماسنا الهائم فوق براكين صقيع المجهول. نرقبُ معلومة منزوية على شاطئ مسجون عن ذاته، مستلقية على ضفة مجموعةٍ من ورق، مكتوية بحرارة شتاء فكري قارس مأزوم ببرودته. نطرق أبوابها المنتظرة فوق مراكب اللقاء، يسبقنا الاستئذان المتلهف ويغرينا الأذن المطلق، ندخل صراطها الممتد بين قطرات خجلى من حبر، تتدفق من بضع خاناتٍ حبلى من فكر. ننتقل بين زواياها المترامية، هناك في الأفق البعيد، البعيد البعيد، الذي بالكاد نراه، نفتح نوافذها المطلة على حيرة المستحيل والممكن، على المعقول المتداني واللامعقول المتنائي. نرقب المعاني النائمة على شطآن فكرة تستفيق لأول مرة، تستيقظ على وقع صوتنا المبحوح من صمته المجلجل. تدعونا لامتطاء صهوة شذرة معنى لم نسمعها من قبل، تأخذنا إلى حيث تتكون الدهشة والفضول في رحم المعرفة. تستيقظ فينا بضع شذرات أخرى من يقين وبضع بذرات اخرى من حنين وأخرى من انين، نمسك بلحظة ناعسة متثاءبه في يوم انهكته ثوانيه وارهقته دقائقه، نأخذ بيدها الينا، نحاول ادراكها واحتضانها وبيان ما فيها من خير. تخطب بصيرتنا ود بصرنا، نسمع وقع خطوات الفكرة، هي آتية لا محالة. نحس أنفاس معانيها وهي تحتضن آذاننا الساجدة في محراب الإنصات والاستشراف، على مساحات ضيقة متوارية بين أسطر متزاحمة، فوق ورقة بيضاء ناصعة عادت للتو من وداع آخر قطرة حبر اجهضت آخر زفراتها. رحابة فكرة جديدة ولدت منتشيه، بداية البدايات في المعلومة الأهم لنا، خمس كلمات "إني جاعل في الأرض خليفة"، هيبة لحظاتها الاولى ووقع ما حدث فيها وعظيم ما ترسخ عنها. اليوم الأول للإنسان، والأيام التالية، يوم جدي وجدك! يومي الاول، يومك الاول، والى قيام الساعة.